رواية| الجنية غازي القصيبي

 الجنية غازي القصيبي

" هل نحب - حين نحب - " مظهراً " يراه الجميع أم " مخبراً " لا يراه أحد ؟ باختصار ، هل نحب - حين نحب - روحاً أم جسداً ، أم مزيجاً من الاثنين ؟"

"هـيا اجلسوا لا تناموا خلّو النمنمية تعشّي عيالها بيكم الليلة"، جملة تكفي لبث كل أشكال الرعب والخوف في أفئدتنا الصغيرة، كانت هذه حيلة الوالدة لتجعلنا نهرع إلى النوم بدون جدال.

منذ نعومة أظفارنا ونحن نسمع عن "أم العباية" و "أم حمار" و "السعلاة" و "البس الأسود" وغيرهم من مشاهير الجن، كبرنا وتضاءلت كمية الإحساس بالخوف وأدركنا أن هذه مجرد شخصيات وهمية لردع تصرفات الأطفال الطائشة، لكن دائما يبقى لقصص الجن ومواقفهم هيبة في أنفسنا، فكلما أتى شخص على ذكرها اقشعرت الأبدان، واتسّعت المحاجر، وتحلّقنا، وبدأ كل شخص يروي موقف حصل له مع الجن، رغم الرعب الذي يسكن النفوس وقتها، لكن حكايات الجن لها حضورها الخاص ولا بد من المشاركة.

الأسبوع المنصرم، أمضيتُ الليلة مع الدكتور غازي القصيبي –رحمه الله- وحكايته: الجنية.!

الفكرة: 

الرواية أو "الحكاية" كما يطيب للمؤلف تسميتها من حيث الفكرة تُعد جرأة من القصيبي فكيف لمؤلف أدبي، ومفكر، ورجل سياسة أن يؤلف رواية تعزز من خزعبلات المجتمع حول الجن والاختلاط بهم، لكن القصيبي ليس كأي "أديب" يحاول اكتساب الجمهور بعناوين ملفتة، الرواية فيها الكثير من الرمزية، وشيء من الكوميديا الساخرة،
وصفحات من الإثراء المعرفي.

يكفي أن الكاتب استهلّ الحكاية بهذا التساؤل:

أيتها الجنية! هل أنتِ الحرية؟ أيتها الحرية! هل أنتِ جنية؟

مطلع الحكاية:

حكاية الجنية اختار القصيبي أن يسردها كسيرة ذاتية لحياة ض.ض.ض "ضاري ضرغام الضبيع" أستاذ جامعي متقاعد، في الستينيات من العمر، وينحدر من أصول نجدية لكن عائلته استقرت في الأحساء منذ قرون.

تبدأ الحكاية في صيف عام 1961 م كان ضاري متجها في إجازة دراسية من لوس أنجلس إلى السعودية، واضطرت الطائرة للهبوط في الدار البيضاء وكان عليه المكوث لمدة أربعة أيام، تعرّف على فتاة مغربية تعمل مضيفة في شركة الطيران، وخلال الأيام الأربعة نما بينهما حب هائل، أدى إلى أن اتفقا على الزواج، فأخبرها أنه سيكلم أهله في الموضوع، وهي أيضاً عليها أن تفعل ذلك، وتعاهدا على الوفاء بقية العمر.

بالطبع كان الرفض من عائلة الطرفين، وقرر ضاري العودة إلى الدار البيضاء قبل سفره إلى لوس انجلس ولقاء حبيبته وتبليغها بالخبر المؤسف.

عند عودته للدار البيضاء استقبلته الحبيبة في المطار، وأخبرته أن أهلها رفضوا أن يقترن بها، لكن هي تحبه جدا ولا تستطيع العيش من دونه وقد قررت الزواج به رغما عن أهلها، وخالها بارك الزواج وسيكون وليها الشرعي، وافق ضاري على الفور، وبدل أن يتوجه بهم "الطاكسي" إلى الفندق، غيّر مساره وذهب بهم إلى أحد الضواحي عند بيت مهجور في أحد البساتين.

دخلا البيت، وعقدا قرانهما معا، وكان المهر عبارة عن شيك سياحي بقيمة عشرة دولارات، وهكذا أمضى الزوج السعيد ضاري أجمل أسبوع في حياته، وفي آخر يوم بدأت تحدث أمور غريبة جدا، فقبل صعوده للطائرة بدقائق معدودة همست زوجته في أذنه "أنها ليست حبيبته التي تعرّف عليها أول مرة، لأنها ماتت، وهي "الجنية" أحبّته بصدق ولم تستطع إخباره خوفا من أيفرّ بلا رجعة" ودّعته ووضعت قصاصة ورق في يده، وقالت: "إذا أرت رؤيتي فما عليك إلا أن تحرق الورقة".

بعد يوم وليلة من وصوله إلى لوس أنجلس، فتح ضاري الورقة ووجد اسم "عائشة" مكتوبا فيها.. هل هذا اسم الجنية؟

وهكذا بدأت الحكاية.. حكاية ض.ض.ض مع ع.ق.

الأسلوب الأدبي:

من ناحية ترصيص الكلمات وزخرفتها، والبلاغة الأدبية فالرواية أقل من ذلك، لكن القصيبي يمتلك أسلوباً خاصا به وفي جعبته كم وافر من المفردات والمعاني البديعة التي تضمن عدم الملل من الأسلوب، فنادرا ما يتكرر استخدام الكلمة في أكثر من مكان. 

الإثراء المعرفي:

حكـاية الجنية غزيرة جداً بالمعلومات المفيدة عن "عالم الجن"، في البداية ظننت أنها حكاية عادية، لكن بمجرد اتمامي للفصل الأول، وجدت الكثير من الحقائق العلمية، والشواهد، والنقولات من بعض الكتب المتخصصة في الجن وأخبارهم، وأظن الكاتب أراد أن يثقف القارئ أكثر ويشجه  للبحث في خبايا هذا العالم المريب، ولعله لهذا السبب أدرج المراجع التي استعان بها في عَقِب الكتاب لمن أراد التوسّع.

"الجنية" من الروايات التي تجعلك توّد الاطلاع أكثر على بعض ما ورد فيها من مصطلحات مثل: الانثروبولوجي (علم الإنسان)، الباراسيكولوجي (التلباثي/التخاطر)، والميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة)، بصراحة استفدت كثيراً وتعلمت أشياء عن الإنسان وطريقة تصرفه لم أكن ألقي لها بالا.

إجمالا:

 الجنية رواية خيالية وممتعة وتستحق الاقتناء، ولا أنكر أني ضحكت كثيراً في بعض الفصول، لكن البعض الآخر جعل شعر جسمي يقف من الخوف، لذلك إن كنت شجاعاً بما يكفي اقتنِ الرواية واقرأها على مسؤوليتك الشخصية.


اقتبست لكم:
بعض مما راق لي أثناء القراءة..


أنا مسكون، لست مسؤلا عن تصرفاتي!
"هناك عوامـل نفسية واجتماعية عديدة تجعل حكايات الجن منتشرة ومقبولة. ربّما كان من أهم هذه العوامل نقل المسؤولية عن تصرفات بشرية من أصحابها إلى الجن."

الجـاحظ يفسّر ظاهرة انتشار قصص الجن!
"إذا استوحش الإنسان تمثّل له الشيء الصغير في صورة الكبير وارتاب، وتفرّق ذهنه، وانتقضت أخلاطه، فرأى ما لا يرى وسمع ما لا يُسمع، وتوهّم على الشيء اليسير الحقير أنه عظيم جليل، ثم جعلوا ما تصوّر له من ذلك شعراً تناشدوه، وأحاديث تواردوها، فازدادوا بذلك إيمانًا، ونشأ عليه الناشئ، ورُبي به الطفل، فصار أحدهم حين يتوسّط الفيافي في الليالي الحنادس، فعند أول وحشة مفزعة وعند صياح بوم ومجاوبة صدى وقد رأى كل باطل وتوهم كل زور.. فعند ذلك يقول: رأيت الغيلان! وكلمت السعلاة! ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: قتلتها، ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: تزوجتها." الجن في أدب الجاحظ، عكاشة الطيبي.

أساطير الجن ما هي حقيقتهم؟!
"أسطورة (أم السعف والليف) تجسّد، على نحو رمزي، مقاومة الفلاحين أمام هجمات البدو الغزاة... و (أم حمار) تعبير سريالي عن مخاوف الزوجات من المرأة التي ستخطف أزواجهن... و (السعلاة) صورة رمزية للصحراء الجائعة التي تبتلع الذين يضلّون الطريق... و(الدجيرة) رمز اخترعته الطبقة الكادحة للتعبير عن نقمتها على المستغلّين، مصاصي الدماء.. هكذا تستطيع إرجاع كل أساطير الجن وحكاياتهم إلى تربتها الأنثروبولوجية العلمية." بتصرف

الجـن والنظام الجامعي!
"... بعد امتحان شاق عسير، دام تسعة شهور، بمقاييسكم، ظفرت بدرجة جنّي مستأنس، مع مرتبة الشرف الأولى، وتبادل الأطروحة مع جامعات العالم الجني. هاه! هاه! أنا أمزح، بطبيعة الحال. لا توجد لدينا مرتبة شرف ولا مرتبة قطن، ولا أطروحة ولا طرّاحة، ولكني أداعبكم بسخافاتكم، وأرجو أن يجيء كلامي خفيفًا على قلبك.."

لمـاذا يفضّل الجن المغرب؟!
". . .المغرب بلد مضياف جداً، بل لعله أكثر بلاد الدنيا ترحيباً بالضيوف. وقد تعوّد أهله على الجن عبر العصور، ونشأ بين الطرفين نوع من التعايش السلمي تطوّر إلى نوع من المودة المتبادلة. وأضافت الخالة أن الجن لا يحبون زيارة الجزائر خوفاً من الشاهقات الحارقات المبرقات المرعدات. ولا يحبون زيارة موريتانيا حيث يوجد مليون شاعر يقتلون الإنس والجن قتلاً بأشعارهم. ويتجنبون زيارة مصر حتى لا تعتقلهم المخابرات بتهمة التآمر على أمن الدولة. ويصعب عليهم زيارة العراق حتى لا يدفنون في مقابر جماعية. ويتجنبون لبنان حتى لا يمصّهم اللبنانيون مصّ الليمون، كما يفعلون بالسّواح. ولا يريدون زيارة بلدك خوفاً من الهيئة." 

الخليجيات العاشقات!
"على ذكر (وراس أبوي) "اعلم، يا وليدي، أن الإنسيات الخليجيات مستعدات للتضحية بآبائهن في حالة العشق". قلت: (كيف، يا خالة؟). قالت: (تقول الواحدة منهن لرجلها: "فديتك بأبوي!" أو: "بعد أبوي!" أو باختصار: "أبوي!". إلا أن رجال الإنس الخليجيين لا يقابلون هذه العاطفة بمثلها فلم يعهد عن إنسي خليجي أنه قال لحبيبته "فديتك بأبوي!". قلت: (وما السبب، يا خالة؟). قالت: (السبب، والله أعلم، أن الخليجيين يخافون آباءهم حتى عندما يصبحون رجالاً، فلا يجرؤ الواحد منهم على ذكر أبيه في سياق العشق، أما الخليجيات عندما يعشقن فلا يخفن أحداً ولا يبالين بأحد)."

الـجن والغيب!
"يا لحمق أولئك الذين يظنون أن الجن يعرفون الغيب! الحياة لا تستجيب بسهولة لمخططات أحد، جنياً كان أو إنسياً، أما القدر فلا يعبأ بهذه المخططات على الإطلاق."

ما الذي يوحّد المجتمعات؟
"الاختلافات بين المجتمعات، على الرغم من عمقها وتعددها وتنوّعها، لا تستطيع أن تخفي الأشياء المشتركة، وخاصة تلك الأشياء النابعة من العقل الجماعي للإنسانية كلها، والمبنيّ، جزئياً على الأقل، على أساطير وخرافات مشتركة".

من الأقوى سحراً؟
"هل يوجد سحر أعظم من السحر الذي مارسه هتلر وحوّل من خلاله الأمة الألمانية العظيمة إلى قطيع من الأغنام الخانعة؟ هل يوجد سحر أعظم من السحر الذي مارسه ستالين؟ أو مارسه موسوليني؟. قوة البشر الأشرار تفوق في رأيي، قوة السحرة مجتمعين، والشياطين مجتمعين".

عـلم الإنسان والسحر!
"السحر، وأنا أقصد السحر بأوسع معانيه، ولد قبل الانثروبولوجي بقرون طويلة جداً، ومن يدري، فقد يبقى بعد اختفاء الانثروبولوجي بقرون طويلة جداً. عندما بدأ علم الأنثروبولوجي المعاصر مع بداية حركة التنوير في أوروبا، تعامل هذا العلم مع السحر باعتباره ظاهرة معروفة في المجتمعات البدائية وحدها، وعندما توجد في المجتمعات المتقدمة فإنها لا توجد إلا لدى شريحة صغيرة من السكان متخلّفة وجاهلة. السحر، في نظر الأنثروبولوجي، ظاهرة بدائية يصفها الباحث بحياد دون أن يؤمن بتأثيرها الفعلي... الاتجاه الرئيسي، في علم الأنثروبولوجي، منذ بداية العلم وحتى هذه اللحظة، لا يؤمن بالسحر كحقيقة موضوعية. هذا الاتجاه يتعامل مع العامل المادي وحده، العامل الذي يرى بالعين ويلمس باليد، باعتباره العامل الحقيقي، أما ما عدا ذلك فأساطير وخرافات للباحث أن يدرسها ولكن ليس له أن يصدّقها."

متى يعمل السحر؟!
"لا بُدّ من الإيمان بالسحر مقدّماً لكي يمكن للسحر أن يكون مؤثراً."

شاركني رأيك